رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الأسبق: تعاملت مع مبارك بمبدأ (ألا قد بلغت)
فخرى عباس رمضان الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات
«النظام السابق استطاع اغتيال دور الجهاز المركزى للمحاسبات».. هذه هى النتيجة التى خرجنا بها من أول حوار صحفى مع فخرى عباس رمضان، الرئيس الأسبق لجهاز المحاسبات، بعد سنوات طويلة من الصمت كان فيها مراقبا للتغييرات الإدارية التى طرأت على الجهاز، وأهمها نقل تبعيته إلى رئيس الجمهورية بمبادرة من رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، بعدما كان ملحقا بمجلس الشعب.
تولى رمضان رئاسة الجهاز من 1988 إلى 1997، وكشف فى شهادته لـ«الشروق» أسرار مواجهاته مع المسئولين عن عملية خصخصة القطاع العام التى يصفها بالعشوائية، وكيف أنه كان يرفع التقارير إلى الرئيس السابق مبارك ولم يتلق ردا أو تعقيبا واحدا على مدى 9 سنوات شهدت العديد من المخالفات الإدارية والمالية أدت لإهدار مئات الملايين من الجنيهات.
وأكد رمضان أنه ناضل من أجل ضمان استقلالية الجهاز، وتغلب على زكريا عزمى بعد معركة طويلة على تمرير لائحة لأعضاء بالجهاز تضمن لهم مزايا وظيفية وحصانة فى أثناء ممارسة عملهم، ثم أهدرت هذه المكاسب وأصبح تعيين وإقالة رئيس الجهاز يتم بقرار جمهورى دون العرض على مجلس الشعب، ويوضح بالأمثلة أن برلمان الحزب الوطنى كان يرفض محاسبة المسئولين عن إهدار المال ويتجاهل توصيات الجهاز باستمرار.
● كيف تقيم أداء واختصاصات الجهاز المركزى للمحاسبات فى الوقت الراهن؟
ـ للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا التمييز بين المراحل التاريخية لعمل الجهاز، فهو الآن يعمل فى مناخ غير مستقل على الإطلاق عن السلطة التنفيذية، فقد تركت رئاسة الجهاز وهو هيئة مستقلة أوائل 1997، وبعدها تم انتهاك استقلالية الجهاز ليتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ويتم تعيين رئيسه وإقالته بقرار جمهورى، كما تصدر لائحة العاملين به بقرار جمهورى.. فباختصار نحن نعيش عصر ردّة لأداء الجهاز الرقابى للدولة.
● ومن المسئول عن إهدار استقلال الجهاز؟
ـ رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، لأنه أمر وزير ماليته محيى الدين الغريب عام 1997 بإعداد مذكرة بتعديل قانون الجهاز بحيث يتحول من جهة رقابية إلى جهة إدارية تابعة لرئيس الجمهورية، وتلغى المزايا والحصانات التى كانت مقررة لأعضائه، ويتحول نظام تأديب أعضائه إلى النيابة الإدارية بدلا من مجلس التأديب الخاص به شأنه شأن أى جهة تنفيذية أخرى.
ومرر مجلس الشعب ذو الأغلبية المنتمية للحزب الوطنى هذه التعديلات المعيبة، لتعترض المنظمات الرقابية الدولية والإقليمية فى حينه، حيث كان هناك مؤتمر رقابى عالمى فى القاهرة فى ذلك الوقت وعندما علم الأجانب بهذا التعديل أبدوا غضبهم مما حدث واستنكروا تدخل السلطة التنفيذية فى عمل الجهاز الرقابى.
● هل كانت هناك محاولات سابقة لدمج الجهاز فى السلطة التنفيذية؟
ـ نعم فى 1975، علمنا أن وزارة المالية تعد مشروع قانون للجهاز بالتوازى مع إعدادنا مشروعا آخر فاعترضنا بشدة ومررنا مشروعنا الخاص.
● وكيف مر التطور التاريخى لعلاقة الجهاز المركزى للمحاسبات بالسلطة؟
ـ أنشئ الجهاز باسم ديوان المحاسبة بالمرسوم الملكى بقانون رقم 50 لسنة 1942 واختص منذ البداية بمراجعة مصروفات وإيرادات الدولة، وكان هيئة رقابية مستقلة تماما يعين رئيسه بترشيح من مجلس النواب، ويعرض الترشيح على الملك ليصدر مرسوما ملكيا كاشفا وليس منشئا بتعيينه، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بموافقة مجلس النواب، وله حصانة كاملة بحيث لا ينفذ أمر الملك عليه. وفى عام 1960 بعد الوحدة مع سوريا صدر قرار الرئيس عبدالناصر بإنشاء «ديوان المحاسبات» بحيث يكون تابعا لرئيس الجمهورية ويعين رئيسه بقرار جمهورى ويمكن إقالته دون العودة لمجلس الأمة، واستمر هذا الوضع 4 سنوات حتى تغير الاسم إلى «الجهاز المركزى للمحاسبات» وأوكلت إليه رقابة أعمال السلطة التنفيذية، وكانت إدارات مراقبة الحسابات المختصة بمراجعة أعمال المؤسسات العامة بالدولة تتبع الجهاز إداريا فقط وتمول من ميزانيات المؤسسات.
وفى عام 1975 طلبت منا الحكومة إعداد مذكرة بالتطور التاريخى لعمل الجهاز الرقابى المصرى، واقترح علينا جمال العطيفى، وكيل مجلس الشعب آنذاك، إعداد مشروع قانون يعيد الاختصاصات الكاملة التى كانت مقررة للجهاز وقت إنشائه ويضمن له الاستقلال التام.
وبالفعل أعددنا قانونا يجعل الجهاز هيئة مستقلة ملحقة بمجلس الشعب لمعاونته فى أداء رقابة فعالة على المال العام، بحيث يعين رئيسه بترشيح من رئيس الجمهورية ويؤخذ رأى مجلس الشعب فيه ثم يصدر قرار جمهورى بتعيينه متضمنا معاملته المالية، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بإذن مجلس الشعب.
● هل شاركت فى إعداد ذلك القانون؟
ـ نعم، وكنت مكلفا بمتابعة سيره فى مجلس الشعب من قبل رئيس الجهاز فى ذلك الوقت المهندس صدقى سليمان.. أعددنا القانون من 6 مواد، الأولى تنص على استقلاله والثانية لكيفية تعيين رئيسه والثالثة تنص على ميزانية مستقلة له تدرج كرقم إجمالى ضمن الموازنة العامة للدولة وبعد اعتماد الرقم يعد الجهاز الميزانية ويوزعها على الأبواب المختلفة وتعرض على مجلس الشعب لاعتمادها.
ونص القانون أيضا على تنظيم شئون العاملين بالجهاز بلائحة خاصة تتضمن جميع المزايا والحوافز والضمانات والحصانة لأعضاء الجهاز، حيث لم يكونوا يتمتعون من قبل بأى مزايا، وبمجرد صدور القانون أعددنا مشروع اللائحة وساعدنا فيها المستشار محمد حامد الجمل، المستشار القانونى لمجلس الشعب آنذاك ورئيس مجلس الدولة فيما بعد، وتم اعتمادها من مجلس الشعب قياسا على اللائحة الداخلية للعاملين به.
● هل كان ذلك القانون يضمن استقلال عمل الجهاز وحصانة أعضائه؟
ـ نعم وكان يحررهم من سلطان الجهات التنفيذية تماما، وفى 1988 إبان تقلدى منصب نائب رئيس الجهاز وجدنا أن العديد من القوانين تتضمن اختصاصات مختلفة للجهاز فقررنا إعداد قانون جديد موحد للجهاز الرقابى تم اعتماده من مجلس الشعب، حيث حافظ على مزايا القانون السابق بل ودمج إدارات مراقبة الحسابات بالقطاع العام فى الجهاز فنيا وإداريا، ونص على استمرار سريان لائحة العاملين الصادرة من مجلس الشعب لحين إعداد لائحة جديدة، لتثور مشكلة بين الجهاز وزكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية.
● ما تفاصيل هذه المشكلة؟
ـ اعترض زكريا عزمى على صدور اللائحة من مجلس الشعب بناء على رأى المستشار محمد الدكرورى، المستشار القانونى لرئاسة الجمهورية، وقال إن اللائحة غير دستورية لصدورها من البرلمان وليس من رئيس الجمهورية، وذلك رغم تطبيقها من 13 سنة سابقة، وبعد مكاتبات بيننا وبينه رفع الأمر للرئيس مبارك الذى قرر وقف العمل باللائحة.
واستمرت هذه اللائحة المميزة موقوفة منذ تقلدى منصب رئيس الجهاز فى 1988 حتى عام 1992، حيث استعنت بالدكتور حسنين عبدالعال، أستاذ القانون الدستورى، لإعداد مذكرة تؤكد دستوريتها وقانونيتها قدمتها لفتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، فرفعها للرئيس مبارك الذى أمر هذه المرة بمناقشتها فى المجلس.. وحاول عزمى التصدى مرة أخرى لها لكنه فشل وتم تمريرها بمزايا أكبر وحصانة أوسع لأعضاء الجهاز.
● ما سر محاربة زكريا عزمى لهذه اللائحة؟
- سألته عن ذلك يوما، فرد علىّ صراحة بأنها تمنح مزايا لأعضاء الجهاز بصورة تفوق العاملين برئاسة الجمهورية، حيث كانت المزايا المالية على نمط العاملين بمجلس الشعب من حيث الحوافز والإعفاء من بعض الضرائب، كما تضمن لأعضاء الجهاز حصانة كاملة خلال عملهم.
● وما كان موقف د. عاطف صدقى رئيس الوزراء آنذاك الذى كان رئيسا للجهاز من قبل؟
ـ قبل لجوئى لسرور قدمت له مذكرة تؤكد قانونية صدور اللائحة من مجلس الشعب لأن الجهاز كان هيئة مستقلة ملحقة بالمجلس، وبالتالى تسرى على لائحته التنفيذية ما يسرى على لائحة مجلس الشعب من شروط إصدار وتستثنى من العرض على رئيس الجمهورية، إلا أن صدقى لم يفعل شيئا رغم أنه ترأس الجهاز وعمل بهذه اللائحة.
● ما شهادتك على فترة رئاستك للجهاز؟
ـ شهدت فترة رئاستى للجهاز وقائع مهمة على رأسها عملية الخصخصة الواسعة لمؤسسات القطاع العام، حيث حاولت وقف الإجراءات الخاطئة غير المسئولة ضمن هذه العملية لإنقاذ المال العام ودخلت فى مواجهات عديدة مع المسئولين عنها. ففى بداية العمل بالخصخصة كان عاطف صدقى وزيرا لقطاع الأعمال إلى جانب رئاسته للحكومة، وأوكل العملية بالكامل لمكتب فنى سماه «المكتب الفنى لقطاع الأعمال العام»، وجعل على رأسه فؤاد عبدالوهاب، النائب السابق لرئيس جهاز المحاسبات، وأوكل له إجراءات تقييم الأصول المعروضة للبيع.
● هل راقب الجهاز عمليات بيع القطاع العام؟
ـ طالبت منذ بداية الخصخصة بإسناد رقابة العملية للجهاز المركزى للمحاسبات باعتبارها عملية تنازل وبيع للمال العام ولابد أن يكون للجهاز دور فى مراقبتها وألاّ يُكتفى بتشكيل لجان التقييم من الشركات التابعة أو القابضة بقطاع الأعمال العام ومكاتب المحاسبة الخارجية، وأكدت لعاطف صدقى أن الجهاز مختص بمراجعة التقييم وتحديد أسعار الأصول قبل بيعها. لكن عاطف صدقى رفض وقال إن الجهاز يختص فقط بالمراجعة اللاحقة للبيع، وأن مراجعة التقييم مسبقة وبالتالى تخرج عن اختصاصه، وبالطبع كان كلامه مغالطة كبيرة لأن التقييم بحد ذاته عملية مستقلة يجب مراقبتها.
وبناء على رفض صدقى ناقشنا الموضوع فى لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب لفترة طويلة دون الوصول لحل، ثم انفرجت الأزمة بعد تولى د. عاطف عبيد وزارة قطاع الأعمال الذى وافق على إخضاع عمليات التقييم للمراجعة قبل البيع.
● كيف بدأتم مراقبة الخصخصة؟
ـ عندما بدأنا عملنا فوجئنا بأن النسبة العظمى والمهمة من شركات ومؤسسات القطاع العام قد بيعت بالفعل، وتأكدنا أن الحكومة قطعت شوطا كبيرا فى بيع القطاع العام دون الخضوع لأى رقابة تذكر بالمخالفة لجميع القوانين، وتبين أنها باعت جميع الفنادق وشركات المشروبات الغازية التى كانت تحقق مكاسب ضخمة وشركة المراجل البخارية وقسما كبيرا من الأراضى الفضاء المملوكة لشركات حكومية بصورة عشوائية، بعد عمليات تقييم غير دقيقة لم يراجعها أحد.
● هل دار بينك وبين المسئولين حديث حول هذه العشوائية؟
ـ اعترضت على سياسة الخصخصة بوجه عام وسألت عاطف صدقى: «لماذا تبيعون مثلا الشيراتون والميريديان والكوكاكولا والبيبسى وهى شركات ناجحة ومخصخصة إداريا؟» فأجابنى «الشركات دى أصلا مش بتاعتنا»!
والغريب أن الفنادق بيعت لرجال أعمال عرب وبعضها مازال مغلقا بدون فوائد مالية لمصر أو لهم، كما أن بيع شركات المشروبات الغازية وغيرها من المواد الاستهلاكية أدى لخلل سعرى فى السوق المصرية.
● ألم تستطيعوا منع بعض المخالفات؟
ـ اعترضنا على بعض الصفقات، نظرا لمخالفات جسيمة فى عملية تقييم الشركات الحكومية، وأوقفت الحكومة بيعها فى عهدى، منها شركة الغزل والنسيج بشبين الكوم وشركة الملاحة البحرية بالإسكندرية.
● وماذا حدث فى عهد الجنزورى؟
ـ أصدر الجنزورى قرارا خطيرا بتقييم سعر متر الأرض الفضاء المملوكة لأى شركة حكومية معروضة للبيع بسعر متر الأرض فى المجتمعات العمرانية الجديدة أى بين 50 و100 جنيه، مما أدى إلى بيع مساحات كبيرة بمناطق مميزة وسط التجمعات السكنية كأراض صحراوية، وعندما لاحظنا ذلك قمنا بحصر الشركات المالكة لهذه الأراضى وأعددنا تقارير عن الفارق بين السعر الحقيقى للمتر وسعر البيع، وتبين إهدار ملايين الجنيهات فى بيع الأراضى الفضاء فقط ناهيك عن بيع الأصول الأخرى.
● ولمن أرسلت هذه التقارير؟
ـ أرسلتها إلى الرئيس مبارك ولم يرد أو يعقب، وفى وقت لاحق أصدر الجنزورى قرارا آخر بنقل الأراضى الفضاء المملوكة للشركات التابعة المعروضة للبيع إلى الشركات القابضة حتى لا تباع، لكنه كان قرارا متأخرا لم ينقذ حق الدولة فى أراضيها، جاء بعد سنوات من خفض مستمر لقيمة الأراضى تحكميا.
● هل استمرت رقابة الجهاز المركزى على عمليات الخصخصة حتى نهايتها؟
ـ لا، فبعد تقاعدى أصدر الجنزورى قرارا آخر بضم عضو من الجهاز المركزى للمحاسبات إلى لجنة تقييم الأصول المعروضة للبيع، وأدى هذا القرار إلى إلغاء رقابة الجهاز على التقييم بشكل نهائى، لأن ممثل الجهاز له صوت واحد فى اللجنة وليست له سلطة على باقى الأعضاء، فكانت القرارات تؤخذ بالإجماع وتحال إلى الوزير المختص دون عرضها على الجهاز بحجة أن ممثل الجهاز حضر عملية التقييم، وهو فى الحقيقة مغلوب على أمره.
● ما رأيك فى الادعاء بأن الخصخصة كانت ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وحرية السوق؟
ـ يجب أن يعلم الجميع أن الخصخصة لم تكن من بنات أفكار عاطف عبيد أو عاطف صدقى، بل كانت بناء على تعليمات من صندوق النقد الدولى، الذى استغل تراكم الديون على مصر فى ذلك الوقت وأوعز للحكومة بضرورة التخلص من القطاع العام، فكانت النتيجة اغتيال مشروعات ناجحة إداريا وماليا وتشريد نسبة كبيرة من العاملين بها.
● كيف كانت العلاقة بينك وبين مؤسسة الرئاسة؟
ـ كرئيس لهيئة مستقلة لم يكن بينى وبين الرئيس مبارك أو مساعديه تواصل دائم، فكنا نرسل التقارير لجميع المستويات من الرئاسة والحكومة والرقابة الإدارية ومجلس الشعب وجهاز المخابرات، ولم يكن الرئيس يعقب أو يرد إطلاقا على أى تقرير، فكنت أعمل بشعار «ألا قد بلغت اللهم فاشهد».
وكانت إدارة المحاسبة المختصة تراقب ميزانية ومصروفات الرئاسة بشكل اعتيادى لأننا مسئولون عن المال العام أينما وجد.
● ما أهم المشاريع الأخرى التى رفضتها وقت رئاستك للجهاز؟
ـ مشروع فوسفات أبوطرطور.. أصدرنا تقريرا يوصى بإنهاء العمل بالمشروع بعدما تبين تكبده خسائر ضخمة منذ أوائل التسعينيات خاصة أن المراقبة الفنية لإنتاجه أكدت عدم صلاحيته، وكان وقتها يتبع وزارة الصناعة، فرفعنا التقرير إلى مجلس الشعب وتم تشكيل لجنة تقصى حقائق انتهت إلى حفظ التصرف فى التقرير واستمرار عمل المشروع، وبعد نقله إلى وزارة البترول عاد الصرف عليه بالمليارات بالمخالفة لرأى الجهاز الرقابى الرئيسى فى مصر.
«النظام السابق استطاع اغتيال دور الجهاز المركزى للمحاسبات».. هذه هى النتيجة التى خرجنا بها من أول حوار صحفى مع فخرى عباس رمضان، الرئيس الأسبق لجهاز المحاسبات، بعد سنوات طويلة من الصمت كان فيها مراقبا للتغييرات الإدارية التى طرأت على الجهاز، وأهمها نقل تبعيته إلى رئيس الجمهورية بمبادرة من رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، بعدما كان ملحقا بمجلس الشعب.
تولى رمضان رئاسة الجهاز من 1988 إلى 1997، وكشف فى شهادته لـ«الشروق» أسرار مواجهاته مع المسئولين عن عملية خصخصة القطاع العام التى يصفها بالعشوائية، وكيف أنه كان يرفع التقارير إلى الرئيس السابق مبارك ولم يتلق ردا أو تعقيبا واحدا على مدى 9 سنوات شهدت العديد من المخالفات الإدارية والمالية أدت لإهدار مئات الملايين من الجنيهات.
وأكد رمضان أنه ناضل من أجل ضمان استقلالية الجهاز، وتغلب على زكريا عزمى بعد معركة طويلة على تمرير لائحة لأعضاء بالجهاز تضمن لهم مزايا وظيفية وحصانة فى أثناء ممارسة عملهم، ثم أهدرت هذه المكاسب وأصبح تعيين وإقالة رئيس الجهاز يتم بقرار جمهورى دون العرض على مجلس الشعب، ويوضح بالأمثلة أن برلمان الحزب الوطنى كان يرفض محاسبة المسئولين عن إهدار المال ويتجاهل توصيات الجهاز باستمرار.
● كيف تقيم أداء واختصاصات الجهاز المركزى للمحاسبات فى الوقت الراهن؟
ـ للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا التمييز بين المراحل التاريخية لعمل الجهاز، فهو الآن يعمل فى مناخ غير مستقل على الإطلاق عن السلطة التنفيذية، فقد تركت رئاسة الجهاز وهو هيئة مستقلة أوائل 1997، وبعدها تم انتهاك استقلالية الجهاز ليتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ويتم تعيين رئيسه وإقالته بقرار جمهورى، كما تصدر لائحة العاملين به بقرار جمهورى.. فباختصار نحن نعيش عصر ردّة لأداء الجهاز الرقابى للدولة.
● ومن المسئول عن إهدار استقلال الجهاز؟
ـ رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، لأنه أمر وزير ماليته محيى الدين الغريب عام 1997 بإعداد مذكرة بتعديل قانون الجهاز بحيث يتحول من جهة رقابية إلى جهة إدارية تابعة لرئيس الجمهورية، وتلغى المزايا والحصانات التى كانت مقررة لأعضائه، ويتحول نظام تأديب أعضائه إلى النيابة الإدارية بدلا من مجلس التأديب الخاص به شأنه شأن أى جهة تنفيذية أخرى.
ومرر مجلس الشعب ذو الأغلبية المنتمية للحزب الوطنى هذه التعديلات المعيبة، لتعترض المنظمات الرقابية الدولية والإقليمية فى حينه، حيث كان هناك مؤتمر رقابى عالمى فى القاهرة فى ذلك الوقت وعندما علم الأجانب بهذا التعديل أبدوا غضبهم مما حدث واستنكروا تدخل السلطة التنفيذية فى عمل الجهاز الرقابى.
● هل كانت هناك محاولات سابقة لدمج الجهاز فى السلطة التنفيذية؟
ـ نعم فى 1975، علمنا أن وزارة المالية تعد مشروع قانون للجهاز بالتوازى مع إعدادنا مشروعا آخر فاعترضنا بشدة ومررنا مشروعنا الخاص.
● وكيف مر التطور التاريخى لعلاقة الجهاز المركزى للمحاسبات بالسلطة؟
ـ أنشئ الجهاز باسم ديوان المحاسبة بالمرسوم الملكى بقانون رقم 50 لسنة 1942 واختص منذ البداية بمراجعة مصروفات وإيرادات الدولة، وكان هيئة رقابية مستقلة تماما يعين رئيسه بترشيح من مجلس النواب، ويعرض الترشيح على الملك ليصدر مرسوما ملكيا كاشفا وليس منشئا بتعيينه، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بموافقة مجلس النواب، وله حصانة كاملة بحيث لا ينفذ أمر الملك عليه. وفى عام 1960 بعد الوحدة مع سوريا صدر قرار الرئيس عبدالناصر بإنشاء «ديوان المحاسبات» بحيث يكون تابعا لرئيس الجمهورية ويعين رئيسه بقرار جمهورى ويمكن إقالته دون العودة لمجلس الأمة، واستمر هذا الوضع 4 سنوات حتى تغير الاسم إلى «الجهاز المركزى للمحاسبات» وأوكلت إليه رقابة أعمال السلطة التنفيذية، وكانت إدارات مراقبة الحسابات المختصة بمراجعة أعمال المؤسسات العامة بالدولة تتبع الجهاز إداريا فقط وتمول من ميزانيات المؤسسات.
وفى عام 1975 طلبت منا الحكومة إعداد مذكرة بالتطور التاريخى لعمل الجهاز الرقابى المصرى، واقترح علينا جمال العطيفى، وكيل مجلس الشعب آنذاك، إعداد مشروع قانون يعيد الاختصاصات الكاملة التى كانت مقررة للجهاز وقت إنشائه ويضمن له الاستقلال التام.
وبالفعل أعددنا قانونا يجعل الجهاز هيئة مستقلة ملحقة بمجلس الشعب لمعاونته فى أداء رقابة فعالة على المال العام، بحيث يعين رئيسه بترشيح من رئيس الجمهورية ويؤخذ رأى مجلس الشعب فيه ثم يصدر قرار جمهورى بتعيينه متضمنا معاملته المالية، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بإذن مجلس الشعب.
● هل شاركت فى إعداد ذلك القانون؟
ـ نعم، وكنت مكلفا بمتابعة سيره فى مجلس الشعب من قبل رئيس الجهاز فى ذلك الوقت المهندس صدقى سليمان.. أعددنا القانون من 6 مواد، الأولى تنص على استقلاله والثانية لكيفية تعيين رئيسه والثالثة تنص على ميزانية مستقلة له تدرج كرقم إجمالى ضمن الموازنة العامة للدولة وبعد اعتماد الرقم يعد الجهاز الميزانية ويوزعها على الأبواب المختلفة وتعرض على مجلس الشعب لاعتمادها.
ونص القانون أيضا على تنظيم شئون العاملين بالجهاز بلائحة خاصة تتضمن جميع المزايا والحوافز والضمانات والحصانة لأعضاء الجهاز، حيث لم يكونوا يتمتعون من قبل بأى مزايا، وبمجرد صدور القانون أعددنا مشروع اللائحة وساعدنا فيها المستشار محمد حامد الجمل، المستشار القانونى لمجلس الشعب آنذاك ورئيس مجلس الدولة فيما بعد، وتم اعتمادها من مجلس الشعب قياسا على اللائحة الداخلية للعاملين به.
● هل كان ذلك القانون يضمن استقلال عمل الجهاز وحصانة أعضائه؟
ـ نعم وكان يحررهم من سلطان الجهات التنفيذية تماما، وفى 1988 إبان تقلدى منصب نائب رئيس الجهاز وجدنا أن العديد من القوانين تتضمن اختصاصات مختلفة للجهاز فقررنا إعداد قانون جديد موحد للجهاز الرقابى تم اعتماده من مجلس الشعب، حيث حافظ على مزايا القانون السابق بل ودمج إدارات مراقبة الحسابات بالقطاع العام فى الجهاز فنيا وإداريا، ونص على استمرار سريان لائحة العاملين الصادرة من مجلس الشعب لحين إعداد لائحة جديدة، لتثور مشكلة بين الجهاز وزكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية.
● ما تفاصيل هذه المشكلة؟
ـ اعترض زكريا عزمى على صدور اللائحة من مجلس الشعب بناء على رأى المستشار محمد الدكرورى، المستشار القانونى لرئاسة الجمهورية، وقال إن اللائحة غير دستورية لصدورها من البرلمان وليس من رئيس الجمهورية، وذلك رغم تطبيقها من 13 سنة سابقة، وبعد مكاتبات بيننا وبينه رفع الأمر للرئيس مبارك الذى قرر وقف العمل باللائحة.
واستمرت هذه اللائحة المميزة موقوفة منذ تقلدى منصب رئيس الجهاز فى 1988 حتى عام 1992، حيث استعنت بالدكتور حسنين عبدالعال، أستاذ القانون الدستورى، لإعداد مذكرة تؤكد دستوريتها وقانونيتها قدمتها لفتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، فرفعها للرئيس مبارك الذى أمر هذه المرة بمناقشتها فى المجلس.. وحاول عزمى التصدى مرة أخرى لها لكنه فشل وتم تمريرها بمزايا أكبر وحصانة أوسع لأعضاء الجهاز.
● ما سر محاربة زكريا عزمى لهذه اللائحة؟
- سألته عن ذلك يوما، فرد علىّ صراحة بأنها تمنح مزايا لأعضاء الجهاز بصورة تفوق العاملين برئاسة الجمهورية، حيث كانت المزايا المالية على نمط العاملين بمجلس الشعب من حيث الحوافز والإعفاء من بعض الضرائب، كما تضمن لأعضاء الجهاز حصانة كاملة خلال عملهم.
● وما كان موقف د. عاطف صدقى رئيس الوزراء آنذاك الذى كان رئيسا للجهاز من قبل؟
ـ قبل لجوئى لسرور قدمت له مذكرة تؤكد قانونية صدور اللائحة من مجلس الشعب لأن الجهاز كان هيئة مستقلة ملحقة بالمجلس، وبالتالى تسرى على لائحته التنفيذية ما يسرى على لائحة مجلس الشعب من شروط إصدار وتستثنى من العرض على رئيس الجمهورية، إلا أن صدقى لم يفعل شيئا رغم أنه ترأس الجهاز وعمل بهذه اللائحة.
● ما شهادتك على فترة رئاستك للجهاز؟
ـ شهدت فترة رئاستى للجهاز وقائع مهمة على رأسها عملية الخصخصة الواسعة لمؤسسات القطاع العام، حيث حاولت وقف الإجراءات الخاطئة غير المسئولة ضمن هذه العملية لإنقاذ المال العام ودخلت فى مواجهات عديدة مع المسئولين عنها. ففى بداية العمل بالخصخصة كان عاطف صدقى وزيرا لقطاع الأعمال إلى جانب رئاسته للحكومة، وأوكل العملية بالكامل لمكتب فنى سماه «المكتب الفنى لقطاع الأعمال العام»، وجعل على رأسه فؤاد عبدالوهاب، النائب السابق لرئيس جهاز المحاسبات، وأوكل له إجراءات تقييم الأصول المعروضة للبيع.
● هل راقب الجهاز عمليات بيع القطاع العام؟
ـ طالبت منذ بداية الخصخصة بإسناد رقابة العملية للجهاز المركزى للمحاسبات باعتبارها عملية تنازل وبيع للمال العام ولابد أن يكون للجهاز دور فى مراقبتها وألاّ يُكتفى بتشكيل لجان التقييم من الشركات التابعة أو القابضة بقطاع الأعمال العام ومكاتب المحاسبة الخارجية، وأكدت لعاطف صدقى أن الجهاز مختص بمراجعة التقييم وتحديد أسعار الأصول قبل بيعها. لكن عاطف صدقى رفض وقال إن الجهاز يختص فقط بالمراجعة اللاحقة للبيع، وأن مراجعة التقييم مسبقة وبالتالى تخرج عن اختصاصه، وبالطبع كان كلامه مغالطة كبيرة لأن التقييم بحد ذاته عملية مستقلة يجب مراقبتها.
وبناء على رفض صدقى ناقشنا الموضوع فى لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب لفترة طويلة دون الوصول لحل، ثم انفرجت الأزمة بعد تولى د. عاطف عبيد وزارة قطاع الأعمال الذى وافق على إخضاع عمليات التقييم للمراجعة قبل البيع.
● كيف بدأتم مراقبة الخصخصة؟
ـ عندما بدأنا عملنا فوجئنا بأن النسبة العظمى والمهمة من شركات ومؤسسات القطاع العام قد بيعت بالفعل، وتأكدنا أن الحكومة قطعت شوطا كبيرا فى بيع القطاع العام دون الخضوع لأى رقابة تذكر بالمخالفة لجميع القوانين، وتبين أنها باعت جميع الفنادق وشركات المشروبات الغازية التى كانت تحقق مكاسب ضخمة وشركة المراجل البخارية وقسما كبيرا من الأراضى الفضاء المملوكة لشركات حكومية بصورة عشوائية، بعد عمليات تقييم غير دقيقة لم يراجعها أحد.
● هل دار بينك وبين المسئولين حديث حول هذه العشوائية؟
ـ اعترضت على سياسة الخصخصة بوجه عام وسألت عاطف صدقى: «لماذا تبيعون مثلا الشيراتون والميريديان والكوكاكولا والبيبسى وهى شركات ناجحة ومخصخصة إداريا؟» فأجابنى «الشركات دى أصلا مش بتاعتنا»!
والغريب أن الفنادق بيعت لرجال أعمال عرب وبعضها مازال مغلقا بدون فوائد مالية لمصر أو لهم، كما أن بيع شركات المشروبات الغازية وغيرها من المواد الاستهلاكية أدى لخلل سعرى فى السوق المصرية.
● ألم تستطيعوا منع بعض المخالفات؟
ـ اعترضنا على بعض الصفقات، نظرا لمخالفات جسيمة فى عملية تقييم الشركات الحكومية، وأوقفت الحكومة بيعها فى عهدى، منها شركة الغزل والنسيج بشبين الكوم وشركة الملاحة البحرية بالإسكندرية.
● وماذا حدث فى عهد الجنزورى؟
ـ أصدر الجنزورى قرارا خطيرا بتقييم سعر متر الأرض الفضاء المملوكة لأى شركة حكومية معروضة للبيع بسعر متر الأرض فى المجتمعات العمرانية الجديدة أى بين 50 و100 جنيه، مما أدى إلى بيع مساحات كبيرة بمناطق مميزة وسط التجمعات السكنية كأراض صحراوية، وعندما لاحظنا ذلك قمنا بحصر الشركات المالكة لهذه الأراضى وأعددنا تقارير عن الفارق بين السعر الحقيقى للمتر وسعر البيع، وتبين إهدار ملايين الجنيهات فى بيع الأراضى الفضاء فقط ناهيك عن بيع الأصول الأخرى.
● ولمن أرسلت هذه التقارير؟
ـ أرسلتها إلى الرئيس مبارك ولم يرد أو يعقب، وفى وقت لاحق أصدر الجنزورى قرارا آخر بنقل الأراضى الفضاء المملوكة للشركات التابعة المعروضة للبيع إلى الشركات القابضة حتى لا تباع، لكنه كان قرارا متأخرا لم ينقذ حق الدولة فى أراضيها، جاء بعد سنوات من خفض مستمر لقيمة الأراضى تحكميا.
● هل استمرت رقابة الجهاز المركزى على عمليات الخصخصة حتى نهايتها؟
ـ لا، فبعد تقاعدى أصدر الجنزورى قرارا آخر بضم عضو من الجهاز المركزى للمحاسبات إلى لجنة تقييم الأصول المعروضة للبيع، وأدى هذا القرار إلى إلغاء رقابة الجهاز على التقييم بشكل نهائى، لأن ممثل الجهاز له صوت واحد فى اللجنة وليست له سلطة على باقى الأعضاء، فكانت القرارات تؤخذ بالإجماع وتحال إلى الوزير المختص دون عرضها على الجهاز بحجة أن ممثل الجهاز حضر عملية التقييم، وهو فى الحقيقة مغلوب على أمره.
● ما رأيك فى الادعاء بأن الخصخصة كانت ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وحرية السوق؟
ـ يجب أن يعلم الجميع أن الخصخصة لم تكن من بنات أفكار عاطف عبيد أو عاطف صدقى، بل كانت بناء على تعليمات من صندوق النقد الدولى، الذى استغل تراكم الديون على مصر فى ذلك الوقت وأوعز للحكومة بضرورة التخلص من القطاع العام، فكانت النتيجة اغتيال مشروعات ناجحة إداريا وماليا وتشريد نسبة كبيرة من العاملين بها.
● كيف كانت العلاقة بينك وبين مؤسسة الرئاسة؟
ـ كرئيس لهيئة مستقلة لم يكن بينى وبين الرئيس مبارك أو مساعديه تواصل دائم، فكنا نرسل التقارير لجميع المستويات من الرئاسة والحكومة والرقابة الإدارية ومجلس الشعب وجهاز المخابرات، ولم يكن الرئيس يعقب أو يرد إطلاقا على أى تقرير، فكنت أعمل بشعار «ألا قد بلغت اللهم فاشهد».
وكانت إدارة المحاسبة المختصة تراقب ميزانية ومصروفات الرئاسة بشكل اعتيادى لأننا مسئولون عن المال العام أينما وجد.
● ما أهم المشاريع الأخرى التى رفضتها وقت رئاستك للجهاز؟
ـ مشروع فوسفات أبوطرطور.. أصدرنا تقريرا يوصى بإنهاء العمل بالمشروع بعدما تبين تكبده خسائر ضخمة منذ أوائل التسعينيات خاصة أن المراقبة الفنية لإنتاجه أكدت عدم صلاحيته، وكان وقتها يتبع وزارة الصناعة، فرفعنا التقرير إلى مجلس الشعب وتم تشكيل لجنة تقصى حقائق انتهت إلى حفظ التصرف فى التقرير واستمرار عمل المشروع، وبعد نقله إلى وزارة البترول عاد الصرف عليه بالمليارات بالمخالفة لرأى الجهاز الرقابى الرئيسى فى مصر.
● تقصد أن مجلس الشعب كان يقف حائلا دون تنفيذ توصيات الجهاز؟
مجلس الشعب بنص الدستور والقانون هو الرقيب على أعمال السلطة التنفيذية، والجهاز المركزى للمحاسبات يساعده فى ذلك، والحقيقة أن الأغلبية البرلمانية التابعة للحزب الحاكم كانت تمنع دائما إدانة السلطة التنفيذية، وكان نظام الحزب الواحد يعوق محاسبة المسئولين عن إهدار المال العام لأنهم فى الغالب من أعضائه أو مقربين منه.
وفى بعض الأحيان كان المجلس يرى تشكيل لجنة تقصى حقائق فى موضوع معين بناء على تقرير الجهاز، وغالبا كان يتم حفظ الأمر.
● كيف كنت تعرض مراجعة الموازنة العامة للدولة على مجلس الشعب؟
ـ كنت أعد التقرير السنوى وأودعه مكتب المجلس وأستمع إلى مناقشات الأعضاء حوله، وفى بعض الأحيان كان نواب المعارضة يطلبون رأيى شفاهة لإحراج وزير المالية، فكنت أرد دائما بأننى قلت ما لدىّ فى التقرير دون أن أضطر لأدخل فى جدل مع الوزير.
وجدير بالذكر أن تقسيم موازنة الدولة المعمول به حاليا مشوب بمخالفة دستورية منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق د. عبدالعزيز حجازى، حيث سمح بصرف مبالغ مالية إضافية لأى وزارة من المخصصات الفائضة عن الوزارات الأخرى المدرجة معها فى ذات الباب بقرار شخصى من وزير المالية دون موافقة مجلس الشعب، رغم ضرورة موافقة البرلمان على هذه العملية دستوريا.
● هل كنت تحيل المخالفات التى ترصدها إلى النائب العام، وهل هناك نص قانونى يلزم الجهاز بذلك؟
ـ هذا الأمر لا يحتاج إلى نص تشريعى، فبموجب قانون العقوبات يجب على مكتشف المخالفة الإبلاغ عنها خاصة إذا كانت متعلقة بالفساد وإهدار المال العام، وعندما كان يثبت لنا خطأ مسئول بالمستندات كنا نطلب من الجهة الإدارية التحقيق فى المخالفة وإذا ثبتت كان يحال للنائب العام بالضرورة، وفى بعض الحالات أبلغنا النيابة مباشرة بوقائع فساد مالى، أذكر منها واقعة إضرار بالمال العام فى إحدى الجامعات عام 1988.
● لماذا يظهر الجهاز بدون أنياب فى محاربة الفساد فى معظم الأحيان؟
ـ لأنه جهة رقابة وليس جهة تحقيق أو محاكمة، وكانت هناك تجربة ناجحة بين عامى 1950 و1954 بإنشاء «محكمة محاسبة للمخالفات المالية» داخل الجهاز تتولاها إدارة قضائية، وكان يرأس المحكمة نائبا لرئيس مجلس الدولة بعضوية أعضاء من الجهاز، ويعد تقرير الاتهام بمعرفة الإدارة القانونية وتصدر الأحكام التأديبية والعقوبات على المدانين.
لكن هذا الاختصاص سلب من الجهاز بإنشاء النيابة الإدارية وباتت هى المختصة بتحريك الدعاوى التأديبية وإحالة المخالفين للمحاكم التأديبية بمجلس الدولة.
● لماذا لم تحاول إعادة نظام محكمة المحاسبة إلى الجهاز؟
ـ كان الأمر يحتاج إلى تعديل تشريعى ولم يكن من السهل استصداره من برلمان معظمه ينتمى للحزب الحاكم.
● إلى أى مدى كانت تقارير الجهاز تفعّل فى عهدك؟
ـ كانت السلطة التنفيذية أقوى بكثير من السلطة التشريعية، وبالتالى كانت معظم توصياتنا لا تنفذ، لكنى كنت أطالب أعضاء الجهاز بضرورة كتابة جميع الملاحظات والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة ليكون كل تقرير كلمة للتاريخ.
● ما رأيك فى قضية استحواذ أحمد عز على مصنع الدخيلة؟
ـ السبب الرئيسى للاستحواذ المخالف للقانون أن مجلس الشعب لم يحرك ساكنا تجاه تقريرى جهاز المحاسبات ولجنة تقصى الحقائق حول المشروع، فمعظم التقارير الرقابية «كانت بتترمى فى الأدراج».
● ومشكلة عقد «مدينتى» الذى أصدر الجهاز تقريرا يدينه أيضا؟
ـ هذه المسألة قانونية بالدرجة الأولى، ورئيس الحكومة فى ذلك الوقت بارك التحايل على حكم الإدارية العليا، وأقر بيع الأرض بسعر لا يتناسب البتة مع سعرها الأصلى.
● كيف يراقب الجهاز العقود المبرمة بين الجهات الإدارية والشركات خاصة فيما يتعلق بالمدى الزمنى لتنفيذ المشروعات وعقوبة فسخ العقد؟
ـ لا علاقة للجهاز بهذا الأمر فالمسئولية بالكامل على الجهة الإدارية البائعة وعليها متابعة تنفيذ العقد، لكن الجهاز يتدخل فقط إذا لاحظ إضرارا بالمال العام بسبب خرق العقد.
● كيف يتم توسيع سلطات الجهاز وتفعيل دوره فى مصر الجديدة بعد 25 يناير؟
ـ استقلالية الجهاز التامة عن رئيس الجمهورية هى الضمانة الوحيدة لأداء دوره الرقابى على أكمل وجه، فمن غير المنطقى أن يتبع الجهاز رأس السلطة التنفيذية التى يراقب تصرفاتها المالية.
محمد بصل
43 سنة رقابة
● تخرج فخرى عباس رمضان فى كلية التجارة عام 1953
● عين فى ديوان المحاسبة (الجهاز المركزى للمحاسبات لاحقا) مارس 1954
● تدرج فى وظائف الجهاز بين المراجعة والتفتيش
● ترقى لدرجة نائب رئيس الجهاز مطلع الثمانينيات
● شارك فى صياغة قانونين للجهاز ولائحتين داخلتين للعاملين به
● ترأس الجهاز من 3 ديسمبر 1988 وحتى 22 يناير 1997
فخرى عباس رمضان الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات
«النظام السابق استطاع اغتيال دور الجهاز المركزى للمحاسبات».. هذه هى النتيجة التى خرجنا بها من أول حوار صحفى مع فخرى عباس رمضان، الرئيس الأسبق لجهاز المحاسبات، بعد سنوات طويلة من الصمت كان فيها مراقبا للتغييرات الإدارية التى طرأت على الجهاز، وأهمها نقل تبعيته إلى رئيس الجمهورية بمبادرة من رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، بعدما كان ملحقا بمجلس الشعب.
تولى رمضان رئاسة الجهاز من 1988 إلى 1997، وكشف فى شهادته لـ«الشروق» أسرار مواجهاته مع المسئولين عن عملية خصخصة القطاع العام التى يصفها بالعشوائية، وكيف أنه كان يرفع التقارير إلى الرئيس السابق مبارك ولم يتلق ردا أو تعقيبا واحدا على مدى 9 سنوات شهدت العديد من المخالفات الإدارية والمالية أدت لإهدار مئات الملايين من الجنيهات.
وأكد رمضان أنه ناضل من أجل ضمان استقلالية الجهاز، وتغلب على زكريا عزمى بعد معركة طويلة على تمرير لائحة لأعضاء بالجهاز تضمن لهم مزايا وظيفية وحصانة فى أثناء ممارسة عملهم، ثم أهدرت هذه المكاسب وأصبح تعيين وإقالة رئيس الجهاز يتم بقرار جمهورى دون العرض على مجلس الشعب، ويوضح بالأمثلة أن برلمان الحزب الوطنى كان يرفض محاسبة المسئولين عن إهدار المال ويتجاهل توصيات الجهاز باستمرار.
● كيف تقيم أداء واختصاصات الجهاز المركزى للمحاسبات فى الوقت الراهن؟
ـ للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا التمييز بين المراحل التاريخية لعمل الجهاز، فهو الآن يعمل فى مناخ غير مستقل على الإطلاق عن السلطة التنفيذية، فقد تركت رئاسة الجهاز وهو هيئة مستقلة أوائل 1997، وبعدها تم انتهاك استقلالية الجهاز ليتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ويتم تعيين رئيسه وإقالته بقرار جمهورى، كما تصدر لائحة العاملين به بقرار جمهورى.. فباختصار نحن نعيش عصر ردّة لأداء الجهاز الرقابى للدولة.
● ومن المسئول عن إهدار استقلال الجهاز؟
ـ رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، لأنه أمر وزير ماليته محيى الدين الغريب عام 1997 بإعداد مذكرة بتعديل قانون الجهاز بحيث يتحول من جهة رقابية إلى جهة إدارية تابعة لرئيس الجمهورية، وتلغى المزايا والحصانات التى كانت مقررة لأعضائه، ويتحول نظام تأديب أعضائه إلى النيابة الإدارية بدلا من مجلس التأديب الخاص به شأنه شأن أى جهة تنفيذية أخرى.
ومرر مجلس الشعب ذو الأغلبية المنتمية للحزب الوطنى هذه التعديلات المعيبة، لتعترض المنظمات الرقابية الدولية والإقليمية فى حينه، حيث كان هناك مؤتمر رقابى عالمى فى القاهرة فى ذلك الوقت وعندما علم الأجانب بهذا التعديل أبدوا غضبهم مما حدث واستنكروا تدخل السلطة التنفيذية فى عمل الجهاز الرقابى.
● هل كانت هناك محاولات سابقة لدمج الجهاز فى السلطة التنفيذية؟
ـ نعم فى 1975، علمنا أن وزارة المالية تعد مشروع قانون للجهاز بالتوازى مع إعدادنا مشروعا آخر فاعترضنا بشدة ومررنا مشروعنا الخاص.
● وكيف مر التطور التاريخى لعلاقة الجهاز المركزى للمحاسبات بالسلطة؟
ـ أنشئ الجهاز باسم ديوان المحاسبة بالمرسوم الملكى بقانون رقم 50 لسنة 1942 واختص منذ البداية بمراجعة مصروفات وإيرادات الدولة، وكان هيئة رقابية مستقلة تماما يعين رئيسه بترشيح من مجلس النواب، ويعرض الترشيح على الملك ليصدر مرسوما ملكيا كاشفا وليس منشئا بتعيينه، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بموافقة مجلس النواب، وله حصانة كاملة بحيث لا ينفذ أمر الملك عليه. وفى عام 1960 بعد الوحدة مع سوريا صدر قرار الرئيس عبدالناصر بإنشاء «ديوان المحاسبات» بحيث يكون تابعا لرئيس الجمهورية ويعين رئيسه بقرار جمهورى ويمكن إقالته دون العودة لمجلس الأمة، واستمر هذا الوضع 4 سنوات حتى تغير الاسم إلى «الجهاز المركزى للمحاسبات» وأوكلت إليه رقابة أعمال السلطة التنفيذية، وكانت إدارات مراقبة الحسابات المختصة بمراجعة أعمال المؤسسات العامة بالدولة تتبع الجهاز إداريا فقط وتمول من ميزانيات المؤسسات.
وفى عام 1975 طلبت منا الحكومة إعداد مذكرة بالتطور التاريخى لعمل الجهاز الرقابى المصرى، واقترح علينا جمال العطيفى، وكيل مجلس الشعب آنذاك، إعداد مشروع قانون يعيد الاختصاصات الكاملة التى كانت مقررة للجهاز وقت إنشائه ويضمن له الاستقلال التام.
وبالفعل أعددنا قانونا يجعل الجهاز هيئة مستقلة ملحقة بمجلس الشعب لمعاونته فى أداء رقابة فعالة على المال العام، بحيث يعين رئيسه بترشيح من رئيس الجمهورية ويؤخذ رأى مجلس الشعب فيه ثم يصدر قرار جمهورى بتعيينه متضمنا معاملته المالية، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بإذن مجلس الشعب.
● هل شاركت فى إعداد ذلك القانون؟
ـ نعم، وكنت مكلفا بمتابعة سيره فى مجلس الشعب من قبل رئيس الجهاز فى ذلك الوقت المهندس صدقى سليمان.. أعددنا القانون من 6 مواد، الأولى تنص على استقلاله والثانية لكيفية تعيين رئيسه والثالثة تنص على ميزانية مستقلة له تدرج كرقم إجمالى ضمن الموازنة العامة للدولة وبعد اعتماد الرقم يعد الجهاز الميزانية ويوزعها على الأبواب المختلفة وتعرض على مجلس الشعب لاعتمادها.
ونص القانون أيضا على تنظيم شئون العاملين بالجهاز بلائحة خاصة تتضمن جميع المزايا والحوافز والضمانات والحصانة لأعضاء الجهاز، حيث لم يكونوا يتمتعون من قبل بأى مزايا، وبمجرد صدور القانون أعددنا مشروع اللائحة وساعدنا فيها المستشار محمد حامد الجمل، المستشار القانونى لمجلس الشعب آنذاك ورئيس مجلس الدولة فيما بعد، وتم اعتمادها من مجلس الشعب قياسا على اللائحة الداخلية للعاملين به.
● هل كان ذلك القانون يضمن استقلال عمل الجهاز وحصانة أعضائه؟
ـ نعم وكان يحررهم من سلطان الجهات التنفيذية تماما، وفى 1988 إبان تقلدى منصب نائب رئيس الجهاز وجدنا أن العديد من القوانين تتضمن اختصاصات مختلفة للجهاز فقررنا إعداد قانون جديد موحد للجهاز الرقابى تم اعتماده من مجلس الشعب، حيث حافظ على مزايا القانون السابق بل ودمج إدارات مراقبة الحسابات بالقطاع العام فى الجهاز فنيا وإداريا، ونص على استمرار سريان لائحة العاملين الصادرة من مجلس الشعب لحين إعداد لائحة جديدة، لتثور مشكلة بين الجهاز وزكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية.
● ما تفاصيل هذه المشكلة؟
ـ اعترض زكريا عزمى على صدور اللائحة من مجلس الشعب بناء على رأى المستشار محمد الدكرورى، المستشار القانونى لرئاسة الجمهورية، وقال إن اللائحة غير دستورية لصدورها من البرلمان وليس من رئيس الجمهورية، وذلك رغم تطبيقها من 13 سنة سابقة، وبعد مكاتبات بيننا وبينه رفع الأمر للرئيس مبارك الذى قرر وقف العمل باللائحة.
واستمرت هذه اللائحة المميزة موقوفة منذ تقلدى منصب رئيس الجهاز فى 1988 حتى عام 1992، حيث استعنت بالدكتور حسنين عبدالعال، أستاذ القانون الدستورى، لإعداد مذكرة تؤكد دستوريتها وقانونيتها قدمتها لفتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، فرفعها للرئيس مبارك الذى أمر هذه المرة بمناقشتها فى المجلس.. وحاول عزمى التصدى مرة أخرى لها لكنه فشل وتم تمريرها بمزايا أكبر وحصانة أوسع لأعضاء الجهاز.
● ما سر محاربة زكريا عزمى لهذه اللائحة؟
- سألته عن ذلك يوما، فرد علىّ صراحة بأنها تمنح مزايا لأعضاء الجهاز بصورة تفوق العاملين برئاسة الجمهورية، حيث كانت المزايا المالية على نمط العاملين بمجلس الشعب من حيث الحوافز والإعفاء من بعض الضرائب، كما تضمن لأعضاء الجهاز حصانة كاملة خلال عملهم.
● وما كان موقف د. عاطف صدقى رئيس الوزراء آنذاك الذى كان رئيسا للجهاز من قبل؟
ـ قبل لجوئى لسرور قدمت له مذكرة تؤكد قانونية صدور اللائحة من مجلس الشعب لأن الجهاز كان هيئة مستقلة ملحقة بالمجلس، وبالتالى تسرى على لائحته التنفيذية ما يسرى على لائحة مجلس الشعب من شروط إصدار وتستثنى من العرض على رئيس الجمهورية، إلا أن صدقى لم يفعل شيئا رغم أنه ترأس الجهاز وعمل بهذه اللائحة.
● ما شهادتك على فترة رئاستك للجهاز؟
ـ شهدت فترة رئاستى للجهاز وقائع مهمة على رأسها عملية الخصخصة الواسعة لمؤسسات القطاع العام، حيث حاولت وقف الإجراءات الخاطئة غير المسئولة ضمن هذه العملية لإنقاذ المال العام ودخلت فى مواجهات عديدة مع المسئولين عنها. ففى بداية العمل بالخصخصة كان عاطف صدقى وزيرا لقطاع الأعمال إلى جانب رئاسته للحكومة، وأوكل العملية بالكامل لمكتب فنى سماه «المكتب الفنى لقطاع الأعمال العام»، وجعل على رأسه فؤاد عبدالوهاب، النائب السابق لرئيس جهاز المحاسبات، وأوكل له إجراءات تقييم الأصول المعروضة للبيع.
● هل راقب الجهاز عمليات بيع القطاع العام؟
ـ طالبت منذ بداية الخصخصة بإسناد رقابة العملية للجهاز المركزى للمحاسبات باعتبارها عملية تنازل وبيع للمال العام ولابد أن يكون للجهاز دور فى مراقبتها وألاّ يُكتفى بتشكيل لجان التقييم من الشركات التابعة أو القابضة بقطاع الأعمال العام ومكاتب المحاسبة الخارجية، وأكدت لعاطف صدقى أن الجهاز مختص بمراجعة التقييم وتحديد أسعار الأصول قبل بيعها. لكن عاطف صدقى رفض وقال إن الجهاز يختص فقط بالمراجعة اللاحقة للبيع، وأن مراجعة التقييم مسبقة وبالتالى تخرج عن اختصاصه، وبالطبع كان كلامه مغالطة كبيرة لأن التقييم بحد ذاته عملية مستقلة يجب مراقبتها.
وبناء على رفض صدقى ناقشنا الموضوع فى لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب لفترة طويلة دون الوصول لحل، ثم انفرجت الأزمة بعد تولى د. عاطف عبيد وزارة قطاع الأعمال الذى وافق على إخضاع عمليات التقييم للمراجعة قبل البيع.
● كيف بدأتم مراقبة الخصخصة؟
ـ عندما بدأنا عملنا فوجئنا بأن النسبة العظمى والمهمة من شركات ومؤسسات القطاع العام قد بيعت بالفعل، وتأكدنا أن الحكومة قطعت شوطا كبيرا فى بيع القطاع العام دون الخضوع لأى رقابة تذكر بالمخالفة لجميع القوانين، وتبين أنها باعت جميع الفنادق وشركات المشروبات الغازية التى كانت تحقق مكاسب ضخمة وشركة المراجل البخارية وقسما كبيرا من الأراضى الفضاء المملوكة لشركات حكومية بصورة عشوائية، بعد عمليات تقييم غير دقيقة لم يراجعها أحد.
● هل دار بينك وبين المسئولين حديث حول هذه العشوائية؟
ـ اعترضت على سياسة الخصخصة بوجه عام وسألت عاطف صدقى: «لماذا تبيعون مثلا الشيراتون والميريديان والكوكاكولا والبيبسى وهى شركات ناجحة ومخصخصة إداريا؟» فأجابنى «الشركات دى أصلا مش بتاعتنا»!
والغريب أن الفنادق بيعت لرجال أعمال عرب وبعضها مازال مغلقا بدون فوائد مالية لمصر أو لهم، كما أن بيع شركات المشروبات الغازية وغيرها من المواد الاستهلاكية أدى لخلل سعرى فى السوق المصرية.
● ألم تستطيعوا منع بعض المخالفات؟
ـ اعترضنا على بعض الصفقات، نظرا لمخالفات جسيمة فى عملية تقييم الشركات الحكومية، وأوقفت الحكومة بيعها فى عهدى، منها شركة الغزل والنسيج بشبين الكوم وشركة الملاحة البحرية بالإسكندرية.
● وماذا حدث فى عهد الجنزورى؟
ـ أصدر الجنزورى قرارا خطيرا بتقييم سعر متر الأرض الفضاء المملوكة لأى شركة حكومية معروضة للبيع بسعر متر الأرض فى المجتمعات العمرانية الجديدة أى بين 50 و100 جنيه، مما أدى إلى بيع مساحات كبيرة بمناطق مميزة وسط التجمعات السكنية كأراض صحراوية، وعندما لاحظنا ذلك قمنا بحصر الشركات المالكة لهذه الأراضى وأعددنا تقارير عن الفارق بين السعر الحقيقى للمتر وسعر البيع، وتبين إهدار ملايين الجنيهات فى بيع الأراضى الفضاء فقط ناهيك عن بيع الأصول الأخرى.
● ولمن أرسلت هذه التقارير؟
ـ أرسلتها إلى الرئيس مبارك ولم يرد أو يعقب، وفى وقت لاحق أصدر الجنزورى قرارا آخر بنقل الأراضى الفضاء المملوكة للشركات التابعة المعروضة للبيع إلى الشركات القابضة حتى لا تباع، لكنه كان قرارا متأخرا لم ينقذ حق الدولة فى أراضيها، جاء بعد سنوات من خفض مستمر لقيمة الأراضى تحكميا.
● هل استمرت رقابة الجهاز المركزى على عمليات الخصخصة حتى نهايتها؟
ـ لا، فبعد تقاعدى أصدر الجنزورى قرارا آخر بضم عضو من الجهاز المركزى للمحاسبات إلى لجنة تقييم الأصول المعروضة للبيع، وأدى هذا القرار إلى إلغاء رقابة الجهاز على التقييم بشكل نهائى، لأن ممثل الجهاز له صوت واحد فى اللجنة وليست له سلطة على باقى الأعضاء، فكانت القرارات تؤخذ بالإجماع وتحال إلى الوزير المختص دون عرضها على الجهاز بحجة أن ممثل الجهاز حضر عملية التقييم، وهو فى الحقيقة مغلوب على أمره.
● ما رأيك فى الادعاء بأن الخصخصة كانت ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وحرية السوق؟
ـ يجب أن يعلم الجميع أن الخصخصة لم تكن من بنات أفكار عاطف عبيد أو عاطف صدقى، بل كانت بناء على تعليمات من صندوق النقد الدولى، الذى استغل تراكم الديون على مصر فى ذلك الوقت وأوعز للحكومة بضرورة التخلص من القطاع العام، فكانت النتيجة اغتيال مشروعات ناجحة إداريا وماليا وتشريد نسبة كبيرة من العاملين بها.
● كيف كانت العلاقة بينك وبين مؤسسة الرئاسة؟
ـ كرئيس لهيئة مستقلة لم يكن بينى وبين الرئيس مبارك أو مساعديه تواصل دائم، فكنا نرسل التقارير لجميع المستويات من الرئاسة والحكومة والرقابة الإدارية ومجلس الشعب وجهاز المخابرات، ولم يكن الرئيس يعقب أو يرد إطلاقا على أى تقرير، فكنت أعمل بشعار «ألا قد بلغت اللهم فاشهد».
وكانت إدارة المحاسبة المختصة تراقب ميزانية ومصروفات الرئاسة بشكل اعتيادى لأننا مسئولون عن المال العام أينما وجد.
● ما أهم المشاريع الأخرى التى رفضتها وقت رئاستك للجهاز؟
ـ مشروع فوسفات أبوطرطور.. أصدرنا تقريرا يوصى بإنهاء العمل بالمشروع بعدما تبين تكبده خسائر ضخمة منذ أوائل التسعينيات خاصة أن المراقبة الفنية لإنتاجه أكدت عدم صلاحيته، وكان وقتها يتبع وزارة الصناعة، فرفعنا التقرير إلى مجلس الشعب وتم تشكيل لجنة تقصى حقائق انتهت إلى حفظ التصرف فى التقرير واستمرار عمل المشروع، وبعد نقله إلى وزارة البترول عاد الصرف عليه بالمليارات بالمخالفة لرأى الجهاز الرقابى الرئيسى فى مصر.
«النظام السابق استطاع اغتيال دور الجهاز المركزى للمحاسبات».. هذه هى النتيجة التى خرجنا بها من أول حوار صحفى مع فخرى عباس رمضان، الرئيس الأسبق لجهاز المحاسبات، بعد سنوات طويلة من الصمت كان فيها مراقبا للتغييرات الإدارية التى طرأت على الجهاز، وأهمها نقل تبعيته إلى رئيس الجمهورية بمبادرة من رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، بعدما كان ملحقا بمجلس الشعب.
تولى رمضان رئاسة الجهاز من 1988 إلى 1997، وكشف فى شهادته لـ«الشروق» أسرار مواجهاته مع المسئولين عن عملية خصخصة القطاع العام التى يصفها بالعشوائية، وكيف أنه كان يرفع التقارير إلى الرئيس السابق مبارك ولم يتلق ردا أو تعقيبا واحدا على مدى 9 سنوات شهدت العديد من المخالفات الإدارية والمالية أدت لإهدار مئات الملايين من الجنيهات.
وأكد رمضان أنه ناضل من أجل ضمان استقلالية الجهاز، وتغلب على زكريا عزمى بعد معركة طويلة على تمرير لائحة لأعضاء بالجهاز تضمن لهم مزايا وظيفية وحصانة فى أثناء ممارسة عملهم، ثم أهدرت هذه المكاسب وأصبح تعيين وإقالة رئيس الجهاز يتم بقرار جمهورى دون العرض على مجلس الشعب، ويوضح بالأمثلة أن برلمان الحزب الوطنى كان يرفض محاسبة المسئولين عن إهدار المال ويتجاهل توصيات الجهاز باستمرار.
● كيف تقيم أداء واختصاصات الجهاز المركزى للمحاسبات فى الوقت الراهن؟
ـ للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا التمييز بين المراحل التاريخية لعمل الجهاز، فهو الآن يعمل فى مناخ غير مستقل على الإطلاق عن السلطة التنفيذية، فقد تركت رئاسة الجهاز وهو هيئة مستقلة أوائل 1997، وبعدها تم انتهاك استقلالية الجهاز ليتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ويتم تعيين رئيسه وإقالته بقرار جمهورى، كما تصدر لائحة العاملين به بقرار جمهورى.. فباختصار نحن نعيش عصر ردّة لأداء الجهاز الرقابى للدولة.
● ومن المسئول عن إهدار استقلال الجهاز؟
ـ رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى، لأنه أمر وزير ماليته محيى الدين الغريب عام 1997 بإعداد مذكرة بتعديل قانون الجهاز بحيث يتحول من جهة رقابية إلى جهة إدارية تابعة لرئيس الجمهورية، وتلغى المزايا والحصانات التى كانت مقررة لأعضائه، ويتحول نظام تأديب أعضائه إلى النيابة الإدارية بدلا من مجلس التأديب الخاص به شأنه شأن أى جهة تنفيذية أخرى.
ومرر مجلس الشعب ذو الأغلبية المنتمية للحزب الوطنى هذه التعديلات المعيبة، لتعترض المنظمات الرقابية الدولية والإقليمية فى حينه، حيث كان هناك مؤتمر رقابى عالمى فى القاهرة فى ذلك الوقت وعندما علم الأجانب بهذا التعديل أبدوا غضبهم مما حدث واستنكروا تدخل السلطة التنفيذية فى عمل الجهاز الرقابى.
● هل كانت هناك محاولات سابقة لدمج الجهاز فى السلطة التنفيذية؟
ـ نعم فى 1975، علمنا أن وزارة المالية تعد مشروع قانون للجهاز بالتوازى مع إعدادنا مشروعا آخر فاعترضنا بشدة ومررنا مشروعنا الخاص.
● وكيف مر التطور التاريخى لعلاقة الجهاز المركزى للمحاسبات بالسلطة؟
ـ أنشئ الجهاز باسم ديوان المحاسبة بالمرسوم الملكى بقانون رقم 50 لسنة 1942 واختص منذ البداية بمراجعة مصروفات وإيرادات الدولة، وكان هيئة رقابية مستقلة تماما يعين رئيسه بترشيح من مجلس النواب، ويعرض الترشيح على الملك ليصدر مرسوما ملكيا كاشفا وليس منشئا بتعيينه، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بموافقة مجلس النواب، وله حصانة كاملة بحيث لا ينفذ أمر الملك عليه. وفى عام 1960 بعد الوحدة مع سوريا صدر قرار الرئيس عبدالناصر بإنشاء «ديوان المحاسبات» بحيث يكون تابعا لرئيس الجمهورية ويعين رئيسه بقرار جمهورى ويمكن إقالته دون العودة لمجلس الأمة، واستمر هذا الوضع 4 سنوات حتى تغير الاسم إلى «الجهاز المركزى للمحاسبات» وأوكلت إليه رقابة أعمال السلطة التنفيذية، وكانت إدارات مراقبة الحسابات المختصة بمراجعة أعمال المؤسسات العامة بالدولة تتبع الجهاز إداريا فقط وتمول من ميزانيات المؤسسات.
وفى عام 1975 طلبت منا الحكومة إعداد مذكرة بالتطور التاريخى لعمل الجهاز الرقابى المصرى، واقترح علينا جمال العطيفى، وكيل مجلس الشعب آنذاك، إعداد مشروع قانون يعيد الاختصاصات الكاملة التى كانت مقررة للجهاز وقت إنشائه ويضمن له الاستقلال التام.
وبالفعل أعددنا قانونا يجعل الجهاز هيئة مستقلة ملحقة بمجلس الشعب لمعاونته فى أداء رقابة فعالة على المال العام، بحيث يعين رئيسه بترشيح من رئيس الجمهورية ويؤخذ رأى مجلس الشعب فيه ثم يصدر قرار جمهورى بتعيينه متضمنا معاملته المالية، ولا يجوز إقالته أو استقالته إلا بإذن مجلس الشعب.
● هل شاركت فى إعداد ذلك القانون؟
ـ نعم، وكنت مكلفا بمتابعة سيره فى مجلس الشعب من قبل رئيس الجهاز فى ذلك الوقت المهندس صدقى سليمان.. أعددنا القانون من 6 مواد، الأولى تنص على استقلاله والثانية لكيفية تعيين رئيسه والثالثة تنص على ميزانية مستقلة له تدرج كرقم إجمالى ضمن الموازنة العامة للدولة وبعد اعتماد الرقم يعد الجهاز الميزانية ويوزعها على الأبواب المختلفة وتعرض على مجلس الشعب لاعتمادها.
ونص القانون أيضا على تنظيم شئون العاملين بالجهاز بلائحة خاصة تتضمن جميع المزايا والحوافز والضمانات والحصانة لأعضاء الجهاز، حيث لم يكونوا يتمتعون من قبل بأى مزايا، وبمجرد صدور القانون أعددنا مشروع اللائحة وساعدنا فيها المستشار محمد حامد الجمل، المستشار القانونى لمجلس الشعب آنذاك ورئيس مجلس الدولة فيما بعد، وتم اعتمادها من مجلس الشعب قياسا على اللائحة الداخلية للعاملين به.
● هل كان ذلك القانون يضمن استقلال عمل الجهاز وحصانة أعضائه؟
ـ نعم وكان يحررهم من سلطان الجهات التنفيذية تماما، وفى 1988 إبان تقلدى منصب نائب رئيس الجهاز وجدنا أن العديد من القوانين تتضمن اختصاصات مختلفة للجهاز فقررنا إعداد قانون جديد موحد للجهاز الرقابى تم اعتماده من مجلس الشعب، حيث حافظ على مزايا القانون السابق بل ودمج إدارات مراقبة الحسابات بالقطاع العام فى الجهاز فنيا وإداريا، ونص على استمرار سريان لائحة العاملين الصادرة من مجلس الشعب لحين إعداد لائحة جديدة، لتثور مشكلة بين الجهاز وزكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية.
● ما تفاصيل هذه المشكلة؟
ـ اعترض زكريا عزمى على صدور اللائحة من مجلس الشعب بناء على رأى المستشار محمد الدكرورى، المستشار القانونى لرئاسة الجمهورية، وقال إن اللائحة غير دستورية لصدورها من البرلمان وليس من رئيس الجمهورية، وذلك رغم تطبيقها من 13 سنة سابقة، وبعد مكاتبات بيننا وبينه رفع الأمر للرئيس مبارك الذى قرر وقف العمل باللائحة.
واستمرت هذه اللائحة المميزة موقوفة منذ تقلدى منصب رئيس الجهاز فى 1988 حتى عام 1992، حيث استعنت بالدكتور حسنين عبدالعال، أستاذ القانون الدستورى، لإعداد مذكرة تؤكد دستوريتها وقانونيتها قدمتها لفتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، فرفعها للرئيس مبارك الذى أمر هذه المرة بمناقشتها فى المجلس.. وحاول عزمى التصدى مرة أخرى لها لكنه فشل وتم تمريرها بمزايا أكبر وحصانة أوسع لأعضاء الجهاز.
● ما سر محاربة زكريا عزمى لهذه اللائحة؟
- سألته عن ذلك يوما، فرد علىّ صراحة بأنها تمنح مزايا لأعضاء الجهاز بصورة تفوق العاملين برئاسة الجمهورية، حيث كانت المزايا المالية على نمط العاملين بمجلس الشعب من حيث الحوافز والإعفاء من بعض الضرائب، كما تضمن لأعضاء الجهاز حصانة كاملة خلال عملهم.
● وما كان موقف د. عاطف صدقى رئيس الوزراء آنذاك الذى كان رئيسا للجهاز من قبل؟
ـ قبل لجوئى لسرور قدمت له مذكرة تؤكد قانونية صدور اللائحة من مجلس الشعب لأن الجهاز كان هيئة مستقلة ملحقة بالمجلس، وبالتالى تسرى على لائحته التنفيذية ما يسرى على لائحة مجلس الشعب من شروط إصدار وتستثنى من العرض على رئيس الجمهورية، إلا أن صدقى لم يفعل شيئا رغم أنه ترأس الجهاز وعمل بهذه اللائحة.
● ما شهادتك على فترة رئاستك للجهاز؟
ـ شهدت فترة رئاستى للجهاز وقائع مهمة على رأسها عملية الخصخصة الواسعة لمؤسسات القطاع العام، حيث حاولت وقف الإجراءات الخاطئة غير المسئولة ضمن هذه العملية لإنقاذ المال العام ودخلت فى مواجهات عديدة مع المسئولين عنها. ففى بداية العمل بالخصخصة كان عاطف صدقى وزيرا لقطاع الأعمال إلى جانب رئاسته للحكومة، وأوكل العملية بالكامل لمكتب فنى سماه «المكتب الفنى لقطاع الأعمال العام»، وجعل على رأسه فؤاد عبدالوهاب، النائب السابق لرئيس جهاز المحاسبات، وأوكل له إجراءات تقييم الأصول المعروضة للبيع.
● هل راقب الجهاز عمليات بيع القطاع العام؟
ـ طالبت منذ بداية الخصخصة بإسناد رقابة العملية للجهاز المركزى للمحاسبات باعتبارها عملية تنازل وبيع للمال العام ولابد أن يكون للجهاز دور فى مراقبتها وألاّ يُكتفى بتشكيل لجان التقييم من الشركات التابعة أو القابضة بقطاع الأعمال العام ومكاتب المحاسبة الخارجية، وأكدت لعاطف صدقى أن الجهاز مختص بمراجعة التقييم وتحديد أسعار الأصول قبل بيعها. لكن عاطف صدقى رفض وقال إن الجهاز يختص فقط بالمراجعة اللاحقة للبيع، وأن مراجعة التقييم مسبقة وبالتالى تخرج عن اختصاصه، وبالطبع كان كلامه مغالطة كبيرة لأن التقييم بحد ذاته عملية مستقلة يجب مراقبتها.
وبناء على رفض صدقى ناقشنا الموضوع فى لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب لفترة طويلة دون الوصول لحل، ثم انفرجت الأزمة بعد تولى د. عاطف عبيد وزارة قطاع الأعمال الذى وافق على إخضاع عمليات التقييم للمراجعة قبل البيع.
● كيف بدأتم مراقبة الخصخصة؟
ـ عندما بدأنا عملنا فوجئنا بأن النسبة العظمى والمهمة من شركات ومؤسسات القطاع العام قد بيعت بالفعل، وتأكدنا أن الحكومة قطعت شوطا كبيرا فى بيع القطاع العام دون الخضوع لأى رقابة تذكر بالمخالفة لجميع القوانين، وتبين أنها باعت جميع الفنادق وشركات المشروبات الغازية التى كانت تحقق مكاسب ضخمة وشركة المراجل البخارية وقسما كبيرا من الأراضى الفضاء المملوكة لشركات حكومية بصورة عشوائية، بعد عمليات تقييم غير دقيقة لم يراجعها أحد.
● هل دار بينك وبين المسئولين حديث حول هذه العشوائية؟
ـ اعترضت على سياسة الخصخصة بوجه عام وسألت عاطف صدقى: «لماذا تبيعون مثلا الشيراتون والميريديان والكوكاكولا والبيبسى وهى شركات ناجحة ومخصخصة إداريا؟» فأجابنى «الشركات دى أصلا مش بتاعتنا»!
والغريب أن الفنادق بيعت لرجال أعمال عرب وبعضها مازال مغلقا بدون فوائد مالية لمصر أو لهم، كما أن بيع شركات المشروبات الغازية وغيرها من المواد الاستهلاكية أدى لخلل سعرى فى السوق المصرية.
● ألم تستطيعوا منع بعض المخالفات؟
ـ اعترضنا على بعض الصفقات، نظرا لمخالفات جسيمة فى عملية تقييم الشركات الحكومية، وأوقفت الحكومة بيعها فى عهدى، منها شركة الغزل والنسيج بشبين الكوم وشركة الملاحة البحرية بالإسكندرية.
● وماذا حدث فى عهد الجنزورى؟
ـ أصدر الجنزورى قرارا خطيرا بتقييم سعر متر الأرض الفضاء المملوكة لأى شركة حكومية معروضة للبيع بسعر متر الأرض فى المجتمعات العمرانية الجديدة أى بين 50 و100 جنيه، مما أدى إلى بيع مساحات كبيرة بمناطق مميزة وسط التجمعات السكنية كأراض صحراوية، وعندما لاحظنا ذلك قمنا بحصر الشركات المالكة لهذه الأراضى وأعددنا تقارير عن الفارق بين السعر الحقيقى للمتر وسعر البيع، وتبين إهدار ملايين الجنيهات فى بيع الأراضى الفضاء فقط ناهيك عن بيع الأصول الأخرى.
● ولمن أرسلت هذه التقارير؟
ـ أرسلتها إلى الرئيس مبارك ولم يرد أو يعقب، وفى وقت لاحق أصدر الجنزورى قرارا آخر بنقل الأراضى الفضاء المملوكة للشركات التابعة المعروضة للبيع إلى الشركات القابضة حتى لا تباع، لكنه كان قرارا متأخرا لم ينقذ حق الدولة فى أراضيها، جاء بعد سنوات من خفض مستمر لقيمة الأراضى تحكميا.
● هل استمرت رقابة الجهاز المركزى على عمليات الخصخصة حتى نهايتها؟
ـ لا، فبعد تقاعدى أصدر الجنزورى قرارا آخر بضم عضو من الجهاز المركزى للمحاسبات إلى لجنة تقييم الأصول المعروضة للبيع، وأدى هذا القرار إلى إلغاء رقابة الجهاز على التقييم بشكل نهائى، لأن ممثل الجهاز له صوت واحد فى اللجنة وليست له سلطة على باقى الأعضاء، فكانت القرارات تؤخذ بالإجماع وتحال إلى الوزير المختص دون عرضها على الجهاز بحجة أن ممثل الجهاز حضر عملية التقييم، وهو فى الحقيقة مغلوب على أمره.
● ما رأيك فى الادعاء بأن الخصخصة كانت ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وحرية السوق؟
ـ يجب أن يعلم الجميع أن الخصخصة لم تكن من بنات أفكار عاطف عبيد أو عاطف صدقى، بل كانت بناء على تعليمات من صندوق النقد الدولى، الذى استغل تراكم الديون على مصر فى ذلك الوقت وأوعز للحكومة بضرورة التخلص من القطاع العام، فكانت النتيجة اغتيال مشروعات ناجحة إداريا وماليا وتشريد نسبة كبيرة من العاملين بها.
● كيف كانت العلاقة بينك وبين مؤسسة الرئاسة؟
ـ كرئيس لهيئة مستقلة لم يكن بينى وبين الرئيس مبارك أو مساعديه تواصل دائم، فكنا نرسل التقارير لجميع المستويات من الرئاسة والحكومة والرقابة الإدارية ومجلس الشعب وجهاز المخابرات، ولم يكن الرئيس يعقب أو يرد إطلاقا على أى تقرير، فكنت أعمل بشعار «ألا قد بلغت اللهم فاشهد».
وكانت إدارة المحاسبة المختصة تراقب ميزانية ومصروفات الرئاسة بشكل اعتيادى لأننا مسئولون عن المال العام أينما وجد.
● ما أهم المشاريع الأخرى التى رفضتها وقت رئاستك للجهاز؟
ـ مشروع فوسفات أبوطرطور.. أصدرنا تقريرا يوصى بإنهاء العمل بالمشروع بعدما تبين تكبده خسائر ضخمة منذ أوائل التسعينيات خاصة أن المراقبة الفنية لإنتاجه أكدت عدم صلاحيته، وكان وقتها يتبع وزارة الصناعة، فرفعنا التقرير إلى مجلس الشعب وتم تشكيل لجنة تقصى حقائق انتهت إلى حفظ التصرف فى التقرير واستمرار عمل المشروع، وبعد نقله إلى وزارة البترول عاد الصرف عليه بالمليارات بالمخالفة لرأى الجهاز الرقابى الرئيسى فى مصر.
● تقصد أن مجلس الشعب كان يقف حائلا دون تنفيذ توصيات الجهاز؟
مجلس الشعب بنص الدستور والقانون هو الرقيب على أعمال السلطة التنفيذية، والجهاز المركزى للمحاسبات يساعده فى ذلك، والحقيقة أن الأغلبية البرلمانية التابعة للحزب الحاكم كانت تمنع دائما إدانة السلطة التنفيذية، وكان نظام الحزب الواحد يعوق محاسبة المسئولين عن إهدار المال العام لأنهم فى الغالب من أعضائه أو مقربين منه.
وفى بعض الأحيان كان المجلس يرى تشكيل لجنة تقصى حقائق فى موضوع معين بناء على تقرير الجهاز، وغالبا كان يتم حفظ الأمر.
● كيف كنت تعرض مراجعة الموازنة العامة للدولة على مجلس الشعب؟
ـ كنت أعد التقرير السنوى وأودعه مكتب المجلس وأستمع إلى مناقشات الأعضاء حوله، وفى بعض الأحيان كان نواب المعارضة يطلبون رأيى شفاهة لإحراج وزير المالية، فكنت أرد دائما بأننى قلت ما لدىّ فى التقرير دون أن أضطر لأدخل فى جدل مع الوزير.
وجدير بالذكر أن تقسيم موازنة الدولة المعمول به حاليا مشوب بمخالفة دستورية منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق د. عبدالعزيز حجازى، حيث سمح بصرف مبالغ مالية إضافية لأى وزارة من المخصصات الفائضة عن الوزارات الأخرى المدرجة معها فى ذات الباب بقرار شخصى من وزير المالية دون موافقة مجلس الشعب، رغم ضرورة موافقة البرلمان على هذه العملية دستوريا.
● هل كنت تحيل المخالفات التى ترصدها إلى النائب العام، وهل هناك نص قانونى يلزم الجهاز بذلك؟
ـ هذا الأمر لا يحتاج إلى نص تشريعى، فبموجب قانون العقوبات يجب على مكتشف المخالفة الإبلاغ عنها خاصة إذا كانت متعلقة بالفساد وإهدار المال العام، وعندما كان يثبت لنا خطأ مسئول بالمستندات كنا نطلب من الجهة الإدارية التحقيق فى المخالفة وإذا ثبتت كان يحال للنائب العام بالضرورة، وفى بعض الحالات أبلغنا النيابة مباشرة بوقائع فساد مالى، أذكر منها واقعة إضرار بالمال العام فى إحدى الجامعات عام 1988.
● لماذا يظهر الجهاز بدون أنياب فى محاربة الفساد فى معظم الأحيان؟
ـ لأنه جهة رقابة وليس جهة تحقيق أو محاكمة، وكانت هناك تجربة ناجحة بين عامى 1950 و1954 بإنشاء «محكمة محاسبة للمخالفات المالية» داخل الجهاز تتولاها إدارة قضائية، وكان يرأس المحكمة نائبا لرئيس مجلس الدولة بعضوية أعضاء من الجهاز، ويعد تقرير الاتهام بمعرفة الإدارة القانونية وتصدر الأحكام التأديبية والعقوبات على المدانين.
لكن هذا الاختصاص سلب من الجهاز بإنشاء النيابة الإدارية وباتت هى المختصة بتحريك الدعاوى التأديبية وإحالة المخالفين للمحاكم التأديبية بمجلس الدولة.
● لماذا لم تحاول إعادة نظام محكمة المحاسبة إلى الجهاز؟
ـ كان الأمر يحتاج إلى تعديل تشريعى ولم يكن من السهل استصداره من برلمان معظمه ينتمى للحزب الحاكم.
● إلى أى مدى كانت تقارير الجهاز تفعّل فى عهدك؟
ـ كانت السلطة التنفيذية أقوى بكثير من السلطة التشريعية، وبالتالى كانت معظم توصياتنا لا تنفذ، لكنى كنت أطالب أعضاء الجهاز بضرورة كتابة جميع الملاحظات والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة ليكون كل تقرير كلمة للتاريخ.
● ما رأيك فى قضية استحواذ أحمد عز على مصنع الدخيلة؟
ـ السبب الرئيسى للاستحواذ المخالف للقانون أن مجلس الشعب لم يحرك ساكنا تجاه تقريرى جهاز المحاسبات ولجنة تقصى الحقائق حول المشروع، فمعظم التقارير الرقابية «كانت بتترمى فى الأدراج».
● ومشكلة عقد «مدينتى» الذى أصدر الجهاز تقريرا يدينه أيضا؟
ـ هذه المسألة قانونية بالدرجة الأولى، ورئيس الحكومة فى ذلك الوقت بارك التحايل على حكم الإدارية العليا، وأقر بيع الأرض بسعر لا يتناسب البتة مع سعرها الأصلى.
● كيف يراقب الجهاز العقود المبرمة بين الجهات الإدارية والشركات خاصة فيما يتعلق بالمدى الزمنى لتنفيذ المشروعات وعقوبة فسخ العقد؟
ـ لا علاقة للجهاز بهذا الأمر فالمسئولية بالكامل على الجهة الإدارية البائعة وعليها متابعة تنفيذ العقد، لكن الجهاز يتدخل فقط إذا لاحظ إضرارا بالمال العام بسبب خرق العقد.
● كيف يتم توسيع سلطات الجهاز وتفعيل دوره فى مصر الجديدة بعد 25 يناير؟
ـ استقلالية الجهاز التامة عن رئيس الجمهورية هى الضمانة الوحيدة لأداء دوره الرقابى على أكمل وجه، فمن غير المنطقى أن يتبع الجهاز رأس السلطة التنفيذية التى يراقب تصرفاتها المالية.
محمد بصل
43 سنة رقابة
● تخرج فخرى عباس رمضان فى كلية التجارة عام 1953
● عين فى ديوان المحاسبة (الجهاز المركزى للمحاسبات لاحقا) مارس 1954
● تدرج فى وظائف الجهاز بين المراجعة والتفتيش
● ترقى لدرجة نائب رئيس الجهاز مطلع الثمانينيات
● شارك فى صياغة قانونين للجهاز ولائحتين داخلتين للعاملين به
● ترأس الجهاز من 3 ديسمبر 1988 وحتى 22 يناير 1997